الشاعر مصطفى دهور

أعزائى القراء سلام الله عليكم !
أتمنى أن تنال هذه القصة رضاكم وتلقى تشجيعاتكم.

                         /  الصديقتان  /

اسم الأولى مريم ، واسم الثانية ايمان. كانتا تدرسان بنفس الإعدادية ، وبنفس القسم ، وكانت علاقتهما عادية ؛ و في يوم . .
   كان الإمتحان الموحد في دورته الثانية والأخيرة. كانت الحراسة مشددة ، ولم يكن بإمكان أي تلميذ أن يغش. كانت المسائل التي وجب حلها في مادة الرياضيات صعبة جدا. فقدت ايمان تركيزها واختلط عليها كل شيء ، ولم تدر ماتفعل. وضعت القلم بهدوء فوق ورقة الإمتحان ، ثم ربعت يديها. كانت المسكينة تبكي في صمت. لاحظت مريم ذلك ، فتأثرت نفسيتها لهذا المشهد المؤلم. مرت ساعتان ، ولم يتبق من الوقت إلا ساعة واحدة.
انتهت مريم.  هاهي تجمع أدواتها لتغادر القسم. مرت بالقرب من إيمان التي كانت تطأطأ رأسها وتبكي دائما في صمت ، وفي غفلة من الأستاذين الذين يقومان بالحراسة ، وضعت أمامها ورقة تتضمن كل الحلول للمسائل التي صعب على هذه الأخيرة  وجودها ، ثم انصرفت.
ارتبكت ايمان قليلا ، ثم أمسكت بالورقة ويداها ترتعشان ؛ بعد ذلك رفعت رأسها ونظرات عينيها تسبق أفكارها. إنها تريد بالطبع أن تشكر مريم ، لكن هذه الأخيرة كانت قد اختفت ؛ إنها توجد الآن بساحة المدرسة ، وقد اختلط صوتها بأصوات كل التلاميذ المتواجدين هناك.
كانت هذه هي البداية لميلاد صداقة قل نظيرها بين فتاتين أحبتا بعضهما بصدق لايوصف ! كانت ايمان مدينة بنجاحها لمريم ، لكن هذه الأخيرة لم يكن يعجبها ان تسمع هذا في كل مناسبة ، كما أنها كانت حريصة على ألا يعرف أحد بما جرى يوم الإمتحان. كانت كتومة جدا.
ظلت إيمان تبحث عن شيء ترد به الجميل إلى مريم. كانت تؤمن بأن كلمة شكر لن تفي بالغرض ولو رددتها مليون مرة.
وجاءت عطلة الصيف.كانت ايمان تنتمي إلى عائلة ميسورة. كانوا يملكون منزلا جميلا يطل على البحر ، وهاهم يستعدون للإلتحاق به في مطلع الأسبوع المقبل ، بغية قضاء شهركامل هناك ، كما جرت العادة كل سنة. قالت إيمان في نفسها " آه ، هذه فرصة ثمينة ، ولن أدعها تمر ، علني أرد ولو جزءا بسيطا من الجميل لمريم ! " كان في نيتها أن تقضي معهم صديقتها مريم عطلة الصيف. 
كلمت إيمان امها وأباها في الموضوع ، فلم يكن لديهما أي مانع. قالا بأن هذا بالعكس شيء يسرهما !
وتمضي الأيام والشهور والسنين ، وتتوطد العلاقة بين ايمان ومريم. أصبح حبهما ووفاؤهما وإخلاصهما لبعضهما شيء يضرب به المثل. كانتا جميلتين ومهذبتين ولبقتين. كان لإيمان أخوين ، لكن لم تكن لها أخت ، فاتخذت من مريم أختا لها ولم تعد تطيق البعد عنها. أينما كنت ترى مريم إلا وكنت ترى معها ايمان.
   بعد نيلهما شهادة البكالوريا، التحقتا بالجامعة ، شعبة الإقتصاد. كان همهما الوحيد هو نيل شهادة الإجازة بامتياز ، وكان من المستبعد جدا أن تربط أي واحدة منهما ، كباقي الفتيات علاقة صداقة مع أي شاب ؛ كانتا تعتبران أن ذلك سيشغلهما عن دراستهما التي تعتبر كل شيء بالنسبة لهما.

     وتشاء الأقدار أن تسقط مريم مريضة فجأة ذات يوم ؛ كان ذلك قبل اجتياز امتحان نيل شهادة الإجازة بيومين فقط. كانتا ، هي وايمان في غرفة هذه الأخيرة. بعد أن صلت مريم صلاة العشاء ، جلست بالقرب من إيمان وقالت لها بصوت ضعيف جدا " إني  أحس بألم حاد يخترق أحشاءي، وبضيق في التنفس."  وما هي إلا ثواني معدودة حتى أغمي عليها.
   اقتادوها على وجه السرعة إلى المستشفى حيث علموا أن حالتها خطيرة جدا ؛ لقد كانت تعاني من قصور كلوي ، بحيث أصبحت إحدى كليتيها لاتؤدي الوظيفة المنوطة بها ، ولكي يتم إنقادها من موت مفاجئ ، كان لابد من استئصال الكلية المريضة وتعويضها بكلية سليمة. قال الطبيب بأن زمن إجراء عملية من هذا النوع لا يجب أن يتعدى ست ساعات. ياإلاهي ، إنه الموت الذي ينتظرها ! فزراعة كلية تتطلب ثمنا خياليا ، إنها تفوق العشرين مليون سنتيم ، يعني مايفوق عشرين ألف دولار ! فالأمر يتطلب إذن أن يتبرع شخص ما بكليته لهذه الفتاة لينقدها من موت تفصله عنها فقط سويعات ، وهذا بالطبع شيء مستحيل ، فلا أحد يمكنه أن يفعل ذلك !  ماالعمل إذن ؟ الله أعلم !  قالت أم مريم وهي تبكي بمرارة " أعيدوا ابنتي إلى البيت لتموت بين إخوتها وأهلها ! " كان لهذه الجملة تأثير بالغ في نفوس الجميع ؛ كانت الدموع تنهمر بغزارة من المقل ، وكانت أكف الضراعة موجهة إلى السماء في صمت رهيب. ياالله ! هاهو صوت مبحوح من شدة البكاء يسمع فجأة " لا ، لن تموت مريم ! لن تموت أختي ! أنا من سيعطيها  كليتي ! أيها الطبيب ، خذ كليتي فورا وازرعها لها !  هيا ، أسرع من فضلك ! "         
   تلك كانت ايمان !! أخذها أبوها من يدها ، ولما ابتعدا عن الناس ، قال لها " ماالذي تقولينه ياابنتي؟ فهذا القرار ليس قرارك وحدك ! " ردت إيمان والدموع تنهمر في صمت من عيونها " عفوا أبي ، إنه قراري لوحدي ! أنت لاتعلم ماتمثل مريم بالنسبة لي ! - أعلم جيدا ! إنها صديقة لاتعوض . - أكثر بكثير من ذلك أبي ! فوجودي ليس له أي معنى بدون وجود مريم . إنها أكثر من أخت بالنسبة لي."

وتتم العملية بنجاح ! وتعود البسمة إلى الشفاه ! ويحمد الكل الله على فضله وإحسانه ! لكن سيحدث بعد ساعة من الزمن مالم يكن في الحسبان ! - ماذا ؟!  - إنه خطب جلل. فالصراخ والعويل يملأ الآن  جنبات المستشفى.
قال الطبيب المعالج بأن ايمان كانت تعاني من حساسية تجاه البنج دون أن تدري ، فوقع تشنج قصبات الهواء عندها ، مما منع حتى إعطاءها فرصة التنفس الصناعي ، وهذا هو الأمر الذي أودى بحياتها.
   الله أكبر ! ماتت إيمان ! إنا لله وإنا إليه راجعون.  لله ماأعطى ولله ماأخذ. إنها توجد الآن في غرفة الموتى ، أو مايسمى بالمشرحة.
ماإن سمعت مريم بالخبر حتى جنت وطار صوابها.
" إيمان . . أختي . . إيمان . . إيمان . ."
ياإلاهي ، ماذا تفعل ؟! كان الطبيب قد أوصى بألا تتحرك من مكانها تحت أي ظرف ،  ومهما كلف الأمر، وذلك لمدة ثمان وأربعين ساعة ، لكنها لم تعد تأبه لهذا. هاهي تقوم من مكانها ثم تستلقي على وجهها وهي تصيح بكل ماأو تيت من قوة ، مرددة اسم إيمان ، وأن لاحياة بدون إيمان . . إنها تتمرغ فوق الإسفلت وهي تتلوى من الألم ؛ هاهي تنزع وبعنف شديد كل الأنابيب المتصلة بجسدها ، بما في ذلك أنبوب التغذية عن طريق الأنف. إنها تفقد الآن وعيها.
أخذوها على وجه السرعة إلى غرفة العمليات : لقد حدثت التهابات داخل مكان العملية ، مما كان يقتضي إعادة فتح الجرح للعلاج. قال الطبيب المعالج بأن حالتها تستدعي معجزة حقيقية.

   إيه يادنيا ! نعيشك وكلنا آمال وأحلام ، لكن لانعرف متى نغادرك !
ودعت إيمان هذه الدنيا ولم تتجاوز بعد سن العشرين ؛ إنها ترقد منذ أكثر من شهر في قبرها. وماذا عن أعز الناس إليها وصديقة عمرها مريم ؟ المسكينة ! لقد توفيت هي الأخرى في نفس اليوم الذي توفيت فيه إيمان ، وهي الآن ترقد بالقبر المجاور لها.

       مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية.
                        الدار البيضاء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشاعر هائل الصرمي

الشاعر احمد خميس عبد الجواد

الشاعر ابو منتظر السماوي