الشاعر هاني زريفة

إسمنت وشهادة
(مهداة إلى عمال الوطن، بمناسبة عيد العمال العالمي)
قصة قصيرة:
بقلم: هاني زريفة
نظر إلى شهادة الإجازة في الحقوق باعتزاز، وقد تاهت على الجدار بإطارها الذهبي اللامع، فرمقته بنظرة شامتة، تجاهلها وانصرف!
حمل على كتفه رفشاً وفي يده صفيحة وصعد إلى الشاحنة... ناداه أبو خليل من الشّرفة مقهقها:
- إلى أين يا أستاذ؟!... أراك أصبحت كادحاً مثلنا! ما فائدة الشهادة إذاً؟!... أأقول لك: انقعها واشرب ماءها على الرّيق!
داس أحدهم على قدمه، وارتطم رفش برأسه، لن يمضي هذا النّهار على خير!
نزل السائق وقد تكوّر كرشه أمامه وخاطبهم قائلاً:
- يا شباب! شرط على الحقل، ولا قتال على البيدر، ومن لا يعجبه الأمر فلينزل!... لا حمراء طويلة ولا قصيرة، نحن لسنا على (بنك)!.. الفطور رغيف وبيضة مسلوقة، والغداء عند أمهاتكم، لا كولا ولا عصير، أسمعتم؟!
- ولكن...؟!
- قلت لكم: من لم يعجبه، فلينزل!
- طيب!.. بصلة.. لكل منا بصلة!
- أمري لله، ما أطمعكم من عمال!
تسابق الرجال في نقل صفائح الإسمنت، ومن تلكأ منهم داسوا على رجله، على السلم الخشبي وصعدوا!... أخذت كومة الإسمنت بالتناقص، وأخذت حرارة الشمس تعتصر جباه الرجال وتسقط منها حباة تلمع على الأرض كالزجاج!
جرحت الصفيحة كتفه، وأخذ الدم ينزف منه؛ فتوقف ليضع فوق كتفه كيس إسمنت فارغ.
- ما هذا يا أستاذ؟!.. أجئنا لنلعب؟!.. في المرة القادمة دع أمّك (تسمّك) لك على كتفك!
- أستاذ!.. ها...ها... قال له أستاذ... أتعلم معنى كلمة (أستاذ) في الجيش يا أستاذ؟!
أخذ الجرح يؤلمه بشكل غير محمول؛ بعد أن تسربت إليه مياه الإسمنت... وبدا الدم واضحاً فوق الثياب!
الشمس (تحرق ذيل العصفور).. والكومة ما زالت (ببركتها)... والعامل الذي يعبئ الصفائح أخذ يزيد له التعبئة عن قصد!
عليه أن يصمد حتى الصفيحة الأخيرة، وإلاّ ذهب كل تعبه هباءً!... أخذ العمال يغّنون ليبعثوا في تفوسهم الهمة، وليتغلبوا على تعبهم:
- بالروح نفدي وطنّا... بالروح نفدي...
- لو صاح صوت المنادي بالروح نفدي وطنّا!
الغناء يتصاعد، والجرح ينز، والحرارة ترتفع... ولكن الكومة أخذت تضمحلّ شيئاً فشيئاً.
تمر امرأة تمسك يد ابنها، فتتوقف قبالته قائلة:
- أرأيت عاقبة من لم يتعلم؟!.. لو كان معه ابتدائية لآوته الحكومة في وظيفة، واستراح من هذا العناء!
ابتلعها كالسكين، وتابع عمله، فماذا عساه يقول؟!
أخيراً انتهت الكومة، وأخذ الرجال يغسلون رفوشهم!
- يعطيكم العافية يا شباب!.. يمكنكم تناول البصل والبيض!
لا بدَّ للجرح أن يلتئم... عليه أن يلتئم!.. غداً سيبدأ نهار جديد!
(تمت).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشاعر هائل الصرمي

الشاعر احمد خميس عبد الجواد

الشاعر ابو منتظر السماوي